فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{كَلَّا إِنَّ كتاب الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)}
لما ذكر تعالى أمر {كتاب الفجار} [المطففين: 7]، عقب بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق، و{الأبرار} جمع بر.
وقرأ ابن عامر: {الأبرار} بكسر الراء.
وقرأ نافع وابن كثير بفتحها.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإمالتها، و{عليون} قيل هو جمع على وزن فعل بناء مبالغة يريد بذلك الملائكة، فلذلك أعرب بالواو والنون، وقيل يريد المواضع العلية لأنه علو فوق علو، فلما كان هذا الاسم على هذا الوزن لا واحد له أشبه عشرين فأعرب بإعراب الجموع إذا أشبهها، وهذا أيضاً كقنسرين فإنك تقول طابت قنسرين ودخلت قنسرين، واختلف الناس في الموضع المعروف، بـ: {عليين} ما هو؟ فقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس: السماء السابعة تحت العرش، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الضحاك: هو عند سدرة المنتهى، وقال ابن عباس: {عليون}: الجنة، وقال مكي: هو في السماء الرابعة، وقال الفراء عن بعض العلماء: في السماء الدنيا، والمعنى أن كتابهم الذي فيه أعمالهم هنالك تهمماً بها وترفيعاً لها، وأعمال الفجار في سجين في أسفل سافلين، لأنه روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس: أن أعمالهم يصعد بها إلى السماء فتأباها، ثم ترد إلى الأرض فتأباها أرض بعد أرض حتى تستقر في سجن تحت الأرض السابعة، و{كتاب مرقوم} في هذه الآية خبر {إن} والظرف ملغى، و{المقربون} في هذه الآية: الملائكة المقربون عند الله تعالى أهل كل سماء، قاله ابن عباس وغيره، و{الأرائك}: جمع أريكة وهي السرر في الحجال، و{ينظرون} معناه إلى ما عندهم من النعيم، ويحتمل أن يريد ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ينظرون إلى أعدائهم في النار كيف يعذبون».
وقرأ جمهور الناس {تَعرِف} على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح التاء وكسر الراء {نضرةَ} نصباً.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب: {تُعرَف} بضم التاء وفتح الراء، {نضرةُ} رفعاً.
وقرأ: {يعرف} بالياء، لأن تأنيث النضرة ليس بحقيقي والنضرة النعمة والرونق و(الرحيق): الخمر الصافية، ومه قول حسان: الكامل:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

و{مختوم}، يحتمل أن يختم على كؤوسه التي يشرب بهما تهمماً وتنظيفاً، والأظهر أنه مختوم شرابه بالرائحة المسكينة حسبما فسر قوله تعالى: {ختامه مسك}، واختلف المتأولون في قوله: {ختامه مسك} فقال علقمة وابن مسعود معناه: خلطه ومزاجه، فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه: خاتمته أن يجد الرائحة عند خاتمته.
الشرب رائحة المسك، وقال أبو علي: المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم، وكذلك قوله: {كان مزاجها كافوراً} [الإنسان: 5]، وقوله تعالى: {زنجبيلاً} [الإنسان: 17] أي يحذي اللسان، وقد قال ابن مقبل: البسيط:
مما يفتق في الحانوت ناطقها ** بالفلفل الجوز والرمان مختوم

قال مجاهد معناه: طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا، وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في أنهار.
وقرأ الجمهور: {ختامه}.
وقرأ الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي {خاتمه}، وهذه بينة المعنى: أنه يراد بها الطبع على الرحيق، وروي عنهم أيضاً كسر التاء، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، والتنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه، فكأن نفسيهما يتباريان فيه، وقيل هو من قولك شيء نفسي، فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان إليه، و(المزاج): الخلط، والضمير عائد على الرحيق، واختلف الناس في {تسنيم} فقال ابن عباس وابن مسعود: {تسنيم} أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفاً. ويمزج رحيق الأبرار بها، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم، وقال مجاهد ما معناه: إن تسنيماً مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر، وذهب قوم إلى أن {الأبرار} و(المقربين) في هذه الآية لمعنى واحد، يقال: لكل من نعم في الجنة، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين، وأن {الأبرار}: هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون، و{عيناً} منصوب إما على المدح، وإما أن يعمل فيه {تسنيم} على رأي من رآه مصدراً، أو ينتصب على الحال من {تسنيم} أو {يسقون}، قاله الأخفش وفيه بعد، وقوله تعالى: {يشرب بها} معناه: يشربها كقول الشاعر أبو ذؤيب الهذلي: الطويل:
شربن بماء البحر ثم تصعدت ** متى لجج خضر لهن نئيج

ثم ذكر تعالى أن الأمر الذي {أجرموا} بالكفر أي كسبوه كانوا في دنياهم {يضحكون} من المؤمنين ويستخفون بهم ويتخذونهم هزؤاً، وروي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، وروي أنها نزلت بسبب أن علي بن أبي طالب وجمعاً معه مروا بجمع من كفار مكة، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)}
الضمير في {مروا} للمؤمنين، ويحتمل أن يكون للكفارن وأما الضمير في {يتغامزون} فهو للكفار لا يحتمل غير ذلك، وكذلك في قوله: {انقلبوا فاكهين} معناه: أصحاب فاكهة ومزج ونشاط وسرور باستخفافهم بالمؤمنين يقال: رجل فاكه كلابن وتامر هكذا بألف، وهي قراءة الجمهور، ويقال: رجل فكه من هذا المعنى.
وقرأ عاصم في رواية حفص: {فكهين} بغير ألف، وهي قراءة أبي جعفر وأبي رجاء والحسن وعكرمة، أما الضمير في: {رأوا} وفي {قالوا}: قال الطبري وغيره: هو للكفار، والمعنى أنهم يرمون المؤمنين بالضلال، والكفار لم يرسلوا على المؤمنين حفظة لهم، وقال بعض علماء التأويل: بل المعنى بالعكس، وإن معنى الآية: وإذا رأى المؤمنون الكفار قالوا إنهم لضالون وهو الحق فيهم، ولكن ذلك يثير الكلام بينهم، فكأن في الآية حضاً على الموادعة، أي أن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار، وهذا كله منسوخ على هذا التأويل بآية السيف، ولما كانت الآيات المتقدمة قد نطقت بيوم القيامة، وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول: {فاليوم} على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون، و{الذين} رفع بالابتداء وقوله تعالى: {على الأرائك ينظرون} معناه: إلى عذابهم في النار، قال كعب: لأهل الجنة كوى ينظرون منها، وقال غيره بينهم جسم عظيم شفاف يرون حالهم، و{هل ثُوِّب الكفار}؟ تقرير وتوقيف لمحمد عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يريد: {ينظرون هل ثوب} والمعنى هل جوزي، ويحتمل أن يكون المعنى يقول بعضهم لبعض.
وقرأ ابن محيصن وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {هثوب} بإدغام اللام في الثاء، قال سيبويه: وذلك حسن وإن كان دون إدغام في الراء لتقاربهما في المخرج.
وقرأ الباقون: {هل ثوب} لا يدغمون، وفي قوله تعالى: {ما كانوا}، حذف تقديره جزاء ما كانوا أو عقاب ما كانوا يفعلون. نجز تفسير سورة (المطففين) بحمد الله. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{كَلاَّ} ردعٌ عمَّا كانُوا عليهِ بعد ردعٍ وزجرٍ إثرَ زجرٍ. وقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ {كتاب الأبرارِ} بعدَهُ بيانُ سوءِ حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابهم وفيه تأكيدٌ للردعِ ووجوبُ الارتداعِ. وكتابهم ما كُتبَ من أعمالِهم و{عليونَ} علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كلُّ ما عملتْهُ الملائكةُ وصلحاءُ الثقلينِ منقول من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ، سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كتاب مرقوم} كما مرَّ في نظيرِه.
وقوله تعالى: {يَشْهَدُهُ المقربون} صفةٌ أُخرى لـ: {كتاب} أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه يوم القيامةِ.
{إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابهم على طريقةِ ما مرَّ في شأن الفجَّارِ {على الأرائك} أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على السريرِ عندهم إلا عندَ كونِه في الحَجَلةِ {يُنظَرُونَ} أي إلى ما شاءوا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك.
{تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه. والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن له حظٌ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ ما لَهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيةِ راءٍ دُونَ راءٍ {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شرابٍ خالصٍ لا غشَّ فيهِ.
{مَّخْتُومٍ ختامه مسك} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه بالمسك مكانَ الطينِ ولعله تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه، وقيل: {ختامه مسك} أي مقطعُه رائحةُ مسك. وقرئ {خاتمه} بفتحِ التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع.
{وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكرَ من أحوالِهم. وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً دونَ غيرِه {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعة الله.
وقيلَ: فليعملِ العاملونَ كقوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} وقيل: فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في الشيء النفيسِ وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ: نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً، والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به.
وقال البغويُّ: وأصلُه من الشيءِ النفيسِ الذي يحرصُ عليه نفوسُ الناسِ ويريدُه كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه أي يضنّ بهِ.
{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} عطف على {ختامه}، صفةٌ أخرى لـ: {رحيقٍ} مثله وما بينَهما اعتراضٌ مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزجُ به ذلكَ الرحيقُ من ماءِ تسنيمٍ على أنَّ مِنْ بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها ابتدائيةٌ.
والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنةِ، وإمَّا لأنَّها تأتيهُم من فوقِ.
روي أنَّها تجري في الهواءِ متسنمة فتنصب في أوانيهم {عَيْناً} نصب على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من {تسنيمٍ} مع كونِه جامداً لاتصافِه بقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ مزيدةٌ أو بمَعْنى منْ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} إلخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ {كَانُواْ} في الدُّنيا {مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم من فقراء المؤمنينَ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قوله تعالى: {أَفِى الله شَكٌّ} أو لمراعاةِ الفواصلِ.
{وَإِذَا مَرُّواْ} أي فقراء المؤمنين {بِهِمُ} أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهرُ إن جازَ العكسُ أيضاً {يَتَغَامَزُونَ} أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم {وَإِذَا انقلبوا} من مجالسهِم {إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فكهين} ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ حينئذٍ بالتغامزِ وقرئ {فاكهين} قيلَ: هُمَا بمَعْنَى، وقيلَ: {فكهين} أشرينَ، وقيلَ: فرحينَ وفاكهين متفكهين، وقيلَ: ناعمينَ، وقيلَ: مازحينَ.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أينما كانُوا {قالواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ} أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد.
{وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} على المسلمينَ {حافظين} حالٌ من واوِ قالوا: أي قالوُا ذلكَ والحالُ أنَّهم من جهةِ الله تعالى موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما اجترأوا عليه من القول من وظائفِ من أرسلَ من جهتهِ تعالى وقد جُوِّز أن يكونَ ذلكَ من جملة قول المجرمينَ كأنَّهم قالوا إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ: عليهم نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما في قولك حلف لأفعلنَّ.
{فاليوم الذين ءامَنُواْ} أي المعهودنَ من الفقراء {مّنَ الكفار} أي من المعهودينَ وهو الأظهرُ وإن أمكنَ التعميمُ من الجانبينِ {يَضْحَكُونَ} حين يرونَهم أذلأَ مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ والترفهِ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ أي فاليوم هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا يفعلونَ في الدُّنيا.
وقوله تعالى: {على الأرائك يَنظُرُونَ} حالٌ من فاعلِ {يضحكونَ} أي يضحكونَ منهم ناظرينَ إليهم وإلى ما هُم فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ: يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقال لهم: اخرجُوا إليها فإذا وصلُوا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ منهم ويأباهُ قوله تعالى: {هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في الدُّنيا فلابد من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ والإثابةُ المجازاةُ وقرئ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} يعني: الشدة من العذاب للذين ينقصون المكيال والميزان وإنما سمي الذي يخون في المكيال والميزان مطففاً لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الخفيف الطفيف ثم بيّن أمرهم فقال: {الذين إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} يعني: استوفوا من الناس لأنفسهم وعلى بمعنى عن بمعنى إذا اكتالوا عن الناس يستوفون يتمون الكيل والوزن {وَإِذَا كالوهم} يعني: إذا باعوا من غيرهم ينقصون الكيل {أَوْ وزنوهم يخسرون} يعني: ينقصون الكيل وقال بعضهم {كالوهم} حرفان يعني: {كالوا} ثم قال: {هم} وكذلك {وزنوا} ثم قال: {هم يخسرون} وذكر عن حمزة الزيات أنه قال هكذا ومعناه هم إذا كالوا أو وزنوا ينقصون وكان الكسائي يجعلها حرفاً واحدًّا {كالوهم} أي: كالوا لهم وكذلك وزنوا لهم وقال أبو عبيدة وهذه هي القراءة لأنهم كتبوها في المصاحف بغير ألف ولو كان مقطوعاً لكتبوا كالواهم بالألف ثم قال عز وجل: {أَلا يَظُنُّ} يعني: ألا يعلم المطفف وألا يستيقن بالبعث قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} يعني: يبعثون بعد الموت {لِيوم عَظِيمٍ} يعني: يوم القيامة هولها شديد {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} يعني: في يوم يقوم الخلائق بين يدي الله تعالى وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفَ يوم يَعْنِي: خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَذَلِكَ الْمَقَامُ على الْمُؤْمِنِينَ كَتَوَلِّي الشَّمْسَ» وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُومُ أَحَدُكُمْ ورشحه إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ».
وقال ابن مسعود: إن الكافر ليلجم بعرقه حتى يقول أرحني ولو إلى النار ثم قال: {كَلاَّ} يعني: لا يستيقنون البعث ثم استأنف، فقال: {إِنَّ كتاب الفجار} ويقال: هذا موصول بكلا إن كتاب يعني حقًّا إن كتاب الفجار {لَفِى سجين} يعني: أعمال الكفار لفي سجين قال مقاتل وقتادة: السجين الأرض السفلى، وقال الزجاج: السجين فعيل من السجن والمعنى: كتابهم في حبس جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وقال مجاهد: {سجين} صخرة تحت الأرض السفلى فيجعل كتاب الفجار تحتها، وقال عكرمة: {لَفِى سجين} أي: لفي خسارة وقال الكلبي: السجين الصخرة التي عليها الأرضون وهي مسجونة فيها أعمال الكفار وأزواجهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ثم قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين} ثم أخبر فقال: {كتاب مرقوم} يعني: مكتوباً ويقال: مكتوب مختوم {وَيْلٌ يومئِذٍ} يعني: شدة العذاب {لّلْمُكَذّبِينَ} يعني: شدة العذاب للمكذبين.
ثم بيّن فقال عز وجل: {الذين يُكَذّبُونَ بِيوم الدين} يعني: يجحدون بالبعث {وَمَا يُكَذّبُ بِهِ} يعني: بيوم القيامة {إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} يعني: كل معتد بالظلم آثم عاص لربه ويقال: كل مقيد للخلق أثيم يعني فاجر وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه ومن كان في مثل حالهم ثم قال: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قال أساطير الاولين} يعني: أحاديث الأولين وكذبهم.
ثم قال: {كَلاَّ} يعني: لا يؤمن {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} يعني: ختم، ويقال: غطى على قلوبهم {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعني: ما عملوا من أعمالهم الخبيثة، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا أَذْنَبَ العَبْدُ ذَنْباً كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاء فِي قَلْبِهِ فَإِذَا تَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإنْ زَادَ زَادَتْ وَذَلِكَ قوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}» وقال قتادة: الذنب على الذنب حتى مات القلب (أسود) ويقال: غلف على قلوبهم ويقال: غطا على قلوبهم وقال أهل اللغة الرين: هو الصدأ والصدأ هو اسم البعد كما قال: ويصدهم عن سبيل الله يغشى على القلب ثم قال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} يعني: لا يرونه يوم القيامة ويقال عن رحمته لممنوعون {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} يعني: دخلوا النار {ثُمَّ يُقال} يعني: يقول لهم الخزنة {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} يعني: تجحدون، وقلتم إنه غير كائن ثم قال عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ} يعني: حقًّا إن كتاب المصدقين لفي عليين وهو فوق السماء السابعة، فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم ثم قال عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ} ثم وصفه فقال: {كتاب مرقوم} يعني: مكتوباً مختوماً في عليين {يَشْهَدُهُ المقربون} يعني: يشهد على ذلك الكتاب سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء.
وقال بعضهم: الكتاب أراد به الروح والأعمال يعني: يرفع روحه وأعماله إلى عليين.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيم على الارائك يَنظُرُونَ} يعني: المؤمنين الصالحين {لفي نعيم} في الجنة {على الأرائك ينظرون} يعني على سرر في الحجال {ينظرون} إلى أهل النار، ويقال: {ينظرون} إلى عدوهم حين يعذبون {تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} يعني: أثر النعمة وسرورهم في وجوههم ظاهر {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} يعني: يسقون خمراً بيضاء، وقال الزجاج: الرحيق الشراب الذي لا غش فيه، قال القتبي: الرحيق الخمر العتيقة، ثم قال: {مَّخْتُومٍ ختامه مسك} يعني: إذا شرب منه رجل وجد عند فراغه من الشراب ريح المسك قرأ الكسائي {مسك}، وروي عن الضحاك أنه قرأ مثله والباقون {ختامه مسك} ومعناهما واحد، والخاتم اسم والختام مصدر يعني: يجد شاربه ريح المسك حين ينزع الإناء من فيه ثم قال عز وجل: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} يعني: بمثل هذا الثواب فليتبادر المتبادرون، ويقال: فليتحاسد المتحاسدون ويقال: فليواظب المواظبون وليجتهد المجتهدون وهذا كما قال لمثل هذا فليعمل العاملون ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} يعني: مزاج الخمر من ماء اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب في الجنة وإنما سمي تسنيماً لأنه يتسنم عليهم فينصب عليهم انصباباً، وقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الرجل يقول إني لفي السنام من قومه فهو في السنام من الشراب، وقال القتبي أصله من سنام البعير يعني: المرتفع ثم وصفه فقال عز وجل: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} يعني: التسنيم عيناً يشرب بها المقربون صرفاً ويمزج لأصحاب اليمين ثم قال عز وجل: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} يعني: أشركوا {كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} يعني: من ضعفاء المؤمنين يضحكون ويسخرون ويستهزؤون بهم {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} يعني: يطعنون ويغتابون وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بنفر من المنافقين ومعه نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون، ويقال حكاية عن كفار مكة أنهم كانوا يضحكون من ضعفاء المسلمين وإذا مروا بهم وهم جلوس يتغامزون يعني يتطاعنون بينهم ويقولون هؤلاء الكسالى: {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فكهين} يعني: رجعوا معجبين بما هم فيه {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} يعني: رأوا المؤمنين {قالواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ} يعني: تركوا طريقهم {وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين} يعني: ما أرسل هؤلاء حافظين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوا عليهم أعمالهم، قال مقاتل: هذا كله في المنافقين يعني: ما وكل المنافقون بالمؤمنين يحفظون عليهم أعمالهم، قرأ عاصم في رواية حفص {انقلبوا فكهين} بغير ألف وفي رواية حفص والباقون بالألف ومعناهما واحد وقال بعضهم: {فاكهين} ناعمين {فكهين} فرحين.
ثم قال عز وجل: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} يعني: في الجنة يضحكون على أهل النار وهم على سرر في الحجال وأعداؤهم في النار {على الارائك يَنظُرُونَ} إلى أعدائهم يعذبون في النار {هَلْ ثُوّبَ الكفار} يعني: جوزوا، ويقال: هل جوزي الكفار وعوقبوا إلا {مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} يعني: إلا بما عملوا في الدنيا من الاستهزاء، وقال مقاتل: يعني: قد جوزي الكفار بأعمالهم الخبيثة جزاءً شراً والله الموفق. اهـ.